الغناء الّذي سحبه النمل من نومي | شعر

لوحة الفنّان أدهم الدمشقيّ

 

ذاهبٌ لأصغي إلى عجائب أبي

عاريًا في دهشتك، لا سياجٌ ولا معرفةٌ ولا كتفٌ

فقط الوقت بتمارينه وحيله، الوقت الّذي يبعثك كلّ مرةٍ في المرآة مثل قافيةٍ تتكرّر

مثل مزرابٍ ينقّط في العتمة، حين كلّ شيءٍ يكمن في الإيقاع الّذي يبعثه المزراب من عتمته.

 

 أنت المصغي بدأبٍ للإيقاع تلمس في إصغائك الطائر والغيمة، القرميد والريح، الحصى والحفرة، فطنة النهر وهواجس المجرى.

الإيقاع حجّة الأشياء العظيمة وشغف الأقنعة.

 

كأن تجد نفسك واقفًا بسجاياك كاملةً في مخيّلة شاعرٍ لا يعرفك

في صوت امرأةٍ لا تراها عبرتْ إلى جانبك

امرأةٍ بسيطةٍ، لكنّها على نحوٍ لم تقصده، هيّجت الضباب وتيّارات النهر المتوارية.

 

ستذهب عكس الريح أيّها النسّاج الماهر

عكس السنوات الّتي أكملتْ عملها وجلستْ في الظلّ

عكس النهر وعكس الفتيان الّذين يحلمون بالنضوج دون شمسٍ ودون رحلة.

 

سيسألك جارك الّذي مات في الخريف الماضي:

إلى أين؟

- ذاهبٌ لأصغي إلى عجائب أبي.

 

وتسألك الفتاة الّتي أحبّتك في شتاءٍ لم يحدث:

إلى أين؟

- نسيتُ ضحكة أمّي على الشرفة.

 

ويسألك شاعرٌ يشبهك - أو هو أنت، إذا أردت الدقّة- وصل لتوّه في مركبٍ بخاريّ:

إلى أين؟

- ذاهبٌ لأوقظ حبيبي.

 

وتسألك امرأةٌ ساهمةٌ وهي ترتق جوربك تحت ضوءٍ خفيف:

أين كنتَ؟

- أتبع الغيم

هل لا زالت تمطر هناك

- تمطر منذ عقودٍ طويلةٍ هناك

إنّه يأتي، المطر، من البغتة ومن الإيماءات القاتمة لـ ’هيرودس‘.

 

 

البرابرة خاصّتي

أفتقد أعدائي، أعدائي الّذين اختفوا على حين غرّةٍ، الّذين استيقظتُ ولم أعثر عليهم حيث يكمنون عادةً.

يا إلهي أين ذهبت تلك الأشباح الّتي كانت تملأ الليل بالهمس والهواجس والريبة وأفكار الصيد

حيث يتكسّر القشّ في الأحلام القديمة ويضحك غرباءُ في قصائدَ ناقصة.

كان عليّ أن أفكّر بهم أكثر، أن أمنحهم أسبابًا وحججًا أكثر، أن أبدي اهتمامًا أكثر بجهدهم ودأبهم لتشجيعهم على البقاء، ربّما، إيماءةٌ مثلًا، قليلٌ من الغضب، إطراقةٌ حزينةٌ، وقفةٌ تشي بالتأثّر... أشياءُ من هذا القبيل

ما كانت لتكلّفني الكثير، لكنّها ضروريّةٌ بالنسبة إليهم وتمنحهم أسبابًا للبقاء.

 كان عليّ أن أطعمهم بين وقتٍ وآخرَ ليواصلوا تنفّسهم القلق بين الشوك والقلع، وأغذّي لهاثهم المتروك على أعشاش الطيور وأوراق نباتات التلال المؤدّية إلى عتبتي.

لقد كانوا أكثر من مجرّد أعداء، أكثر من ذلك قليلًا، كانوا ’البرابرة‘ خاصّتي، الّذين كنتُ أعبر بواسطتهم الضجر وأمجّد العزلة.

 

 

ابنة العتمة

المرأة الّتي أبعدتني عن الينابيع حيث يكثر الغرباء ومتطفّلو الدروب
لم ترسلْني إلى السوق حيث يكثر المتبطّلون ورجال الحاكم
لم تبعثْني إلى الفرن حيث يقف الفتى بصدره العاري المتعرّق أمام النار
لم تأخذني إلى الميناء حيث يتشمّم الصيّادون وباعة السمك ثياب الشاريات
ولم ترسلْني لقطف التين حيث يصل أولاد القرى وأبناء النواطير بأجسادٍ فائرةٍ

: أنا ابنة العتمة

 قلتُ للمرأة المستندة على البوّابة بظهرٍ منهك.
المرأة الّتي تبكي كلّما ناديتُ العتمة:

يا أمّي.

 

 

صوت البئر

كيف أدلّك أيّها الغريب

مقصدك بعيدٌ ودروبك وعرة.

 

كيف ستضمّني وقد حبسني أهلي في العتمة

أبصرك ولا تراني.

 

كيف ستقبّلني حين لَا اسْمَ لك

ولا ذكرياتٍ لي.

 

كيف أتبعك أيّها الغريب

وقد منعني أبي من النظر إلى الشمال

وزجرتني أمّي كما تزجر الطير.

 

 

نجونا من الحبّ

نجونا إذن يا حبيبي من الحبّ

من صورة الياسمين ونقصان صورتنا في الحديقة

من النوم تحت الأغاني القديمة

والبحث في الترّهات عن السحر، أيقونة الخارجين من البئر

حيث البلاغة دربٌ لمَنْ ضيّع الدرب.

 

نجونا من المشي عُمْيًا على هدي نافذةٍ لا ترانا

ومن أسفٍ غامضٍ سوف يمسك أكمامنا عند زاويةٍ في الحرير

ومن ضحكةٍ لم نجد مثلها في الكتب.

 

نجونا من الخوف

من وردةٍ يَبِسَتْ في كتاب الحساب 

ومن سببٍ للسّبب.

نجونا، لأنّا وُلِدْنا على نيّةٍ للذهاب

الذهاب الّذي لا يرى

والذهاب الّذي لا يقف.

 

مشاةً على ضجرٍ فائضٍ أو قلق.

 

نجونا كثيرًا

لأنّ القطارات تصفر في نومنا

حيث تمضي، مكلّلةً بالذهاب، الطرق

فَاسْتَفِقْ يا حبيبي ’هناك‘

اِسْتَفِقْ يا حبيبي ‘هنا‘

وَاسْتَفِقْ.

 

نجونا كثيرًا ولم نَنْقَطِفْ.  

 

 

شاعرةٌ مسلمةٌ في مقدونيا

الشابّة البيضاء الّتي ظهرتْ فجأةً في القاعة

 قالتْ فيما يشبه الهمس:

أنا شاعرةٌ مسلمة.

بدا الأمر كما لو أنّها تفشي سرًّا

أو تقدّم اعترافًا حاسمًا يصعب تقبّله.

كان صدرها قريبًا يبعث موجةً من الدفءِ ورائحة لوزٍ هشّة

عندما أودعتْ بين يديّ قصيدةً مكتوبةً بخطّ اليد بلغة أهل البلاد.

وقبل أن تختفي تمتمتْ بما يشبه "إنْ شاءَ الله"، نطقتْها بالعربيّة

كما لو أنَّها "إنْ شاءَ الله"، اسمها الّذي اكتسبتْه

اسمها الّذي يترفّق بها ويحرس جمالَها بقدريّته المتروكة لتصاريف الزمان.

وكان يمكن مناداتها به ثلاث مرّاتٍ لاسترجاع السحر الّذي تركتْه في هواء القاعة،

لبرهةٍ أخرى.

 

 

سيهبط أيلول عمّا قليل

سيهبط أيلول عمّا قليل

سيلقي على الباب نوم النباتات والكائنات الدؤوبة

يأتي بأغبرة الصيف،

طعمٌ من التين والصبر يبيضّ بين الحواكير والدور.

 

في المطبخ الجانبيّ، المطلّ على فسحةٍ في الحديقة،

تلعب رائحة البنّ والتبغ، حيث انتهى كلّ شيءٍ على عجلٍ، دون معنًى

 بلا ندمٍ

 أو نذور.

 

سينبح أيلول في الباب، باب الحديقة، لكنّني نائمٌ وهو يعرف

 والباب يعرف

 والبيت.

 

والنوم يعرف،

والجار ذو الشاربين العجيبين،

 زائرة الجار ذي الشاربين العجيبين تعرف،

 لكنّها تفتح الباب

والباب يفتح.

 

نائمٌ،

 نائمٌ

 وهو ينبح.

 

لا تفتحي الباب للكلب، أعرفه

كان يأتي هنا دائمًا في الطفولة حيث البيوت الّتي غادرتنا

وحيث الوجوه الّتي لم تعد بيننا منذ وقتٍ طويل،

دعيه ولا تفتحي الباب كي لا يمرّ النباح إلى غرفتي

أو يمسّ الفواكه في لوحة الزيت.

 

لا تنبحي في الحديقة، خلف الزجاج، على شجر الحور.

 

 

لا أجد النوم

أستيقظ بسبب نباح كلابٍ في الذاكرة

أستيقظ بسبب الحرب

بسبب الخوف الّذي يزحف وراء أكياس الرمل

وينظر من الشقوق

وبسبّب أنّنا نسينا الأغطية تحت المطر

وتركنا الفتى من الشمال في الحفرة بعينين خائفتين

 

أستيقظ بسبب الشوق

والندم

أستيقظ بسبب الحبّ

والرغبة في شكر شيءٍ ما

ولأنّ الغناء الّذي كنت أصغي إليه في نومي أخذته الريح

وسحبه النمل إلى ممالكه الغامضة

 

 

* من مجموعة ستصدر قريبًا بعنوان "لا تنادي عليّ بعينيك الواسعتين"، جزء منها سيصدر بالإنجليزيّة عن "دار سيغل" في شتاء 2023.

 


 

غسّان زقطان

 

 

 

شاعر وروائيّ وصحافيّ فلسطينيّ، عمل محرّرًا ثقافيًّا في عدّة صحف ومجلّات وطنيّة فلسطينيّة، ورئيس تحرير «مجلّة الشعراء» الصادرة في رام الله، وله عدّة إصدارات شعريّة ونثريّة.